الخميس

زمان..وانا صغير...!


كان طفلاً لم يتجاوز بعد الثامنة من العمر..ارتدى ملابسة بمفردة و خرج من المنزل حاملاً فى جيبه خمسة جنيهات..خالطه شعور غريب لم يشعر به من قبل فى سنوات عمرة القليلة عندما اخذ يهبط درجات سلم منزله و يعبر الشارع بمفرده فى طريقة الى "الحلاق"...كانت المرة الاولى له التى يذهب فيها اليه بدون والده..يمتزج بداخلة احساس بالسعادة والقلق والفخر واحاسيس اخرى لم يستطع تفسيرها..كان ينظر فى وجوه المارة فى طريقة و يود لو يعلم كل واحد منهم انه ذاهب الى الحلاق بمفردة...كان يشعر بانها بداية لمرحلة جديده فى حياته مثلما تعلم المشى والكلام وكل شىء جديد فهو سيذهب الى الحلاق بنفسه وسيقول له ماذا يريد ان يفعل بشعرة وسيعطيه اجرة بعد ان ينتهى تماماً مثلما يفعل "بابا و خالو و جدو" وكل من يذهبون الى الحلاق بدون مساعدة لانهم "كُبار"
فور وصولة بالقرب من المحل الذى لم يكن بعيداً عن منزلة شعر بتردد قليل قبل الدخول ولكنه دفع الباب بتحفظ ووضع قدمة الصغيرة بداخل المحل الذى يوجد به اربعة كراسى كبيره سوداء للحلاقة واربعة افراد يعملون به منهم صاحبه العجوز الذى يدعى "الحاج حسين"..وبه جهاز تليفزيون فى احدى الاركان يشاهدة الزبائن المنتظرين لدورهم ومقاعد جلدية مريحه يجلسون عليها ومنضدة صغيرة عليها عدة مجلات قديمة لتسلية الجالسين...شعر فى بداية خطواته الاولى داخل المحل ان كل هؤلاء ينظرون اليه باستغراب حتى المجلات وجهاز التلفاز والمقاعد الجلدية المريحة..تسائل فى نفسة عن سبب ذلك هل لصغرة ام لرأسة الكبير من كثافة شعرة عليها ام لماذا؟..تجاهل كل هذا وابتسم ووجهة مرتبكا وقلبة يزداد اسراعا فى نبضاته ثم جلس بجانب رجل اربعينى على احدى المقاعد الجلدية المريحه وعيناه حائرة بين متابعة ما يدور فى التلفاز وبين مشاهدة الجالسون وعلى اكتافهم وملتفة حول رقبتهم ملائات كبيره موحدة اللون تحمى ملابسهم من الشعر..وبين الاستماع الى احاديث كل حلاق الى زبائنه الجالسين فى انتظاره..
لم يكن يشعر بكل هذا فى وجود والده حيث كان يجلس مطمئناً بجانبة يستمع الى كلامة مع "رضا" الحلاق الذى كان يحب والدة ان يقوم بمهمة تهذيب شعر طفله.

انتظر كثيرا الى ان نادى علية "رضا" ليعلمة انه قد حان دورة فى الحلاقة - كان الطفل لا يحب هذا الحلاق ويود لو ان "طارق" او "محمود" او حتى العجوز صاحب المحل "الحاج حسين" هو من يقوم بالحلاقة لة – ولكنه لايستطيع فعل شىء فهذه اثار اختيارات الاب له التى لن يجرؤ على التمرد عليها الآن فجأة فى اولى زياراته للحلاق بمفرده ولكنه قرر فى نفسة انه سيحاول اختيار حلاق اخر غير "رضا" فى المرات القادمه..
ذهب الية الطفل فسألة "رضا " سؤالاً شعر الطفل بالضيق منه وجعله يؤكد فكرته القبيحه عنه..( اومال فين بابا مجاش معاك ليه..؟؟)..كان يريد الرد علية وحسم الامر معه وافهامة ان يعتاد على مجيئه وحيداً اليه بعد ذلك لانه اصبح مثل "بابا وخالو وجدو" وكل "الكُبار" ومن يذهبون الى الحلاق بمفردهم ولكن شىء ما جعله لا يستطيع افهامة هذا فقال له متلعثماً ( بابا مش فاضى النهارده)..
وضع رضا كعادتة منذ ان بدأ الحلاقة للطفل هذة "الشلته" الاسفنجيه على الكرسى الذى سيجلس علية والتى توضع للاطفال قصار القامه لتزيدهم ارتفاعا – كم كان يكره هذه الشلته ويتمنى ان يجلس على الكرسى مباشرة بدونها مثل باقى زبائنه ولكنه صبّر ذاته بانه قد اخذ اولى الخطوات واصبح يذهب وحدة الى الحلاق فربما قد اقترب بعد ذلك من الجلوس على كرسى الحلاقه مباشرة بدون "الشلته"
لم تكن من احلامه ان يحلق رضا لة ذقنه التى لم تنبت بعد ولكنه تمنى ذلك فى هذا اليوم فقد اطلق اعتمادة على نفسه فى الذهاب الى الحلاق زمام احلامه واصبح يتمنى ان يصبح حقاً مثلهم فى كل شىء بما فى ذلك ان يضع "رضا" على وجهه ذلك الصابون الكثيف المنعش ويستلقى هو برأسه مسترخياً على مسند الكرسى الكبير المخصص للحلاقه.
الآن وقد اقترب من اتمام عامه العشرين واستبدل طوال هذة السنوات العديد من صالونات الحلاقة لانه هو من اصبح يأخذ القرار فى ذلك..صار ايضا لا ينتظر اىٍ منهم فهو يتفق معه على موعد يريده عبر الهاتف ويأتى اليه فيه ويجلس على كرسى الحلاقه الاسود الكبير بدون "الشلته" ويحلق له "شعر وذقن" اذا اراد واصبح مثل "بابا وخالو وجدو" وكل "الكُبار" ..ولكنة و فى كل مرة يذهب فيها الي الحلاق الآن يتذكر الايام التى كان يصطحبة فيها والدة ويشعر بالحنين الى الامان الذى كان يغمره وقتها .

شكراً..